الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***
مكية وآيها أربعون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} إدخال {لا} النافية على فعل القسم للتأكيد شائع في كلامهم قال امرؤ القيس: لاَ وَأَبِيكِ ابْنَةَ العَامِري *** لاَ يَدَّعِي القَوْمُ أَنِّي أَفِرْ وقد مر الكلام فيه في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} وقرأ قنبل «لأقسم» بغير ألف بعد اللام وكذا روي عن البزي. {ا وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} بالنفس المتقية التي تلوم النفوس المقصرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها، أو التي تلوم نفسها أبداً وإن اجتهدت في الطاعة أو النفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة أو بالجنس. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة، إن عملت خيراً قالت كيف لم أزدد وإن عملت شراً قالت يا ليتني كنت قصرت " أو نفس آدم فإنها لم تزل تتلوم على ما خرجت به من الجنة، وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها. {أَيَحْسَبُ الإنسان} يعني الجنس وإسناد الفعل إليه لأن فيهم من يحسب، أو الذي نزل فيه وهو عدي بن أبي ربيعة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر القيامة، فأخبره به فقال " لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقكك " أو يجمع الله هذه العُظام. {أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} بعد تفرقها، وقرئ «أن لن يجمع» على البناء للمفعول.
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)} {بلى} نجمعها. {قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ} بجمع سلامياته وضم بعضها إلى بعض كما كانت مع صغرها ولطافتها فكيف بكبار العظام، أو {على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ} الذي هو أطرافه فكيف بغيرها، وهو حال من فاعل الفعل المقدر بعد {بلى}، وقرئ بالرفع أي نحن قادرون. {بَلْ يُرِيدُ الإنسان} عطف على {أَيَحْسَبُ} فيجوز أن يكون استفهاماً وأن يكون إيجاباً لجواز أن يكون الإِضراب عن المستفهم وعن الاستفهام. {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان. {يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} متى يكون يوم القيامة استبعاداً له أو استهزاء. {فَإِذَا بَرِقَ البصر} تحير فزعاً من برق فدهش بصره، وقرأ نافع بالفتح وهو لغة، أو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه، وقرئ «بلق» من بلق الباب إذا انفتح. {وَخَسَفَ القمر} ذهب ضوؤه وقرئ على البناء للمفعول. {وَجُمِعَ الشمس والقمر} في ذهاب الضوء أو الطلوع من المغرب، ولا ينافيه الخسوف فإنه مستعار للمحاق، ولمن حمل ذلك أمارات الموت أن يفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر والجمع باستتباع الروح الحاسة في الذهاب، أو بوصوله إلى من كان يقتبس منه نور العقل من سكان القدس، وتذكير الفعل لتقدمه وتغليب المعطوف. {يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} أي الفرار يقوله قول الآيس من وجدانه المتمني، وقرئ بالكسر وهو المكان. {كَلاَّ} ردع عن طلب المفر. {لاَ وَزَرَ} لا ملجأ مستعار من الحبل واشتقاقه من الوزر وهو الثقل. {إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ} إليه وحده استقرار العباد، أو إلى حكمه استقرار أمرهم، أو إلى مشيئته موضع قرارهم يدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار. {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} بما قدم من عمل عمله وبما أخر منه لم يعمله، أو بما قدم من عمل عمله وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة عمل بها بعده، أو بما قدم من مال تصدق به وبما أخر فخلفه، أو بأول عمله وآخره. {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} حجة بينة على أعمالها لأنه شاهد بها، وصفها بالبصارة على المجاز، أو عين بصيرة فلا يحتاج إلى الإِنباء. {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به جمع معذار وهو العذر، أو جمع معذرة على غير قياس كالمناكير في المنكر فإن قياسه معاذر وذلك أولى وفيه نظر. {لاَ تُحَرّكْ} يا محمد، {بِهِ} بالقرآن. {لِسَانَكَ} قبل أن يتم وحيه. {لِتَعْجَلَ بِهِ} لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك. {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك. {وَقُرْءانَهُ} وإثبات قراءته في لسانك وهو تعليل للنهي. {فَإِذَا قرأناه} بلسان جبريل عليك. {فاتبع قُرْءانَهُ} قراءته وتكرر فيه حتى يرسخ في ذهنك. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} بيان ما أشكل عليك من معانيه، وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور وأصل الدين فكيف بها في غيره، أو بذكر ما اتفق في أثناء نزول هذه الآيات. وقيل الخطاب مع الإِنسان المذكور والمعنى أنه يؤتى كتابه فيتلجلج لسانه من سرعة قراءته خوفاً، فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإن علينا بمقتضى الوعد جمع ما فيه من أعمالك وقراءته، فإذا قرأناه فاتبع قراءته بالإقرار أو التأمل فيه، ثم إن علينا بيان أمره بالجزاء عليه. {كَلاَّ} ردع للرسول عن عادة العجلة أو للإِنسان عن الاغترار بالعاجل. {بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة}.
{وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} {وَتَذَرُونَ الآخرة} تعميم للخطاب إشعاراً بأن بني آدم مطبوعون على الاستعجال وإن كان الخطاب للإِنسان، والمراد به الجنس فجمع الضمير للمعنى ويؤيده قراءة ابن كثير وابن عامر والبصريين بالياء فيهما. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} بهية متهللة. {إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} تراه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه ولذلك قدم المفعول، وليس هذا في كل الأحوال حتى ينافيه نظرها إلى غيره، وقيل منتظرة إنعامه ورد بأن الانتظار لا يسند إلى الوجه وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر، وأن المستعمل بمعناه لا يتعدى بإلى وقول الشاعر: وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ مِن مَلكٍ *** وَالبَحْرُ دُونَك زِدْتَني نِعَماً بمعنى السؤال فإن الانتظار لا يستعقب العطاء. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} شديدة العبوس والباسل أبلغ من الباسر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه. {تَظُنُّ} تتوقع أربابها. {أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} داهية تكسر الفقار. {كَلاَّ} ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة. {إِذَا بَلَغَتِ التراقى} إذا بلغت النفس أعالي الصدر وإضمارها من غير ذكر لدلالة الكلام عليها. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} وقال حاضر وصاحبها من يرقيه مما به من الرقية، أو قال ملائكة الموت أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب من الرقي. {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} وظن المحتضر أن الذي نزل به فراق الدنيا ومحابها. {والتفت الساق بالساق} والتوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما، أو شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة. {إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} سوقه إلى الله تعالى وحكمه. {فَلاَ صَدَّقَ} ما يجب تصديقه، أو فلا صدق ماله أي فلا زكاة. {وَلاَ صلى} ما فرض عليه والضمير فيهما للإنسان المذكور في {أَيَحْسَبُ الإنسان}. {ولكن كَذَّبَ وتولى} عن الطاعة. {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} يتبختر افتحاراً بذلك من المط، فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط، أو من المط وهو الظهر فإنه يلويه. {أولى لَكَ فأولى} ويل لك من الولي، وأصله أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في {رَدِفَ لَكُم} أو {أولى لَكَ} الهلاك. وقيل أفعل من الويل بعد القلب أدنى من أدون، أو فعلى من آل يؤول بمعنى عقباك النار. {ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} أي يتكرر ذلك عليه مرة بعد أخرى. {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} مهملاً لا يكلف ولا يجازى، وهو يتضمن تكرير إنكاره للحشر والدلالة عليه من حيث إن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح، والتكليف لا يتحقق إلا بالمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة. {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى} فقدره فعدله. {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين} للصنفين {الذكر والأنثى} وهو استدلال آخر بالإِبداء على الإِعادة على ما مر تقريره مراراً ولذلك رتب عليه قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى}. عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان إذا قرأها قال سبحانك بلى» وعنه صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمناً به».
مكية وآيها إِحدى وثلاثون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} استفهام تقرير وتقريب ولذلك فسر بقد وأصله أهل كقوله: أهل رَأَوْنَا بِسَفْحِ القَاعِ ذِي الأَكم *** {حِينٌ مّنَ الدهر} طائفة محدودة من الزمان الممتد الغير المحدود. {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإِنسانية كالعنصر والنطفة، والجملة حال من {الإنسان} أو وصف ل {حِينٍ} بحذف الراجع والمراد بالإِنسان الجنس لقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} أو آدم بين أولاً خلقه ثم ذكر خلقه بنيه. {أَمْشَاجٍ} أخلاط جمع مشج أو مشج أو مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته، وجمع النطفة به لأن المراد بها مجموع مني الرجل والمرأة وكل منهما مختلف الأجزاء في الرقة والقوام والخواص، ولذلك يصير كل جزء منهما مادة عضو. وقيل مفرد كأعشار وأكباش. وقيل ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا اخضرا، أو أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. {نَّبْتَلِيهِ} في موضع الحال أي مبتلين له بمعنى مريدين اختباره أو ناقلين له من حال إلى حال فاستعير له الابتلاء. {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات، فهو كالمسبب عن الابتلاء ولذلك عطف بالفاء على الفعل المقيد به ورتب عليه قوله: {إِنَّا هديناه السبيل} أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات. {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} حالان من الهاء، و{أَمَّا} للتفصيل أو التقسيم أي {هديناه} في حاليه جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضهم {شاكرا} بالاهتداء والأخذ فيه، وبعضهم كفور بالإِعراض عنه، أو من {السبيل} ووصفه بالشكر والكفر مجاز. وقرئ {أَمَّا} بالفتح على حذف الجواب ولعله لم يقل كافراً ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل، وإشعاراً بأن الإِنسان لا يخلو عن كفران غالباً وإنما المؤاخذ به التوغل فيه. {إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سلاسل} بها يقادون. {وأغلالا} بها يقيدون. {وَسَعِيراً} بها يحرقون، وتقديم وعيدهم وقد تأخر ذكرهم لأن الإِنذار أهم وأنفع، وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن، وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر «سلاسلا» للمناسبة. {إِنَّ الأبرار} جمع بر كأرباب أو بار كأشهاد. {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} من خمر وهي في الأصل القدح تكون فيه. {كَانَ مِزَاجُهَا} ما يمزج بها. {كافورا} لبرده وعذوبته وطيب عرفه وقيل اسم ماء في الجنة يشبه الكافور في رائحته وبياضه. وقيل يخلق فيها كيفيات الكافور فتكون كالممزوجة به. {عَيْناً} بدل من {كافورا} إن جعل اسم ماء أو من محل {مِن كَأْسٍ} على تقدير مضاف، أي ماء عين أو خمرها أو نصب على الاختصاص أو بفعل يفسره ما بعدها. {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} أي ملتذاً بها أو ممزوجاً بها، وقيل الباء مزيدة أو بمعنى من لأن الشرب مبتدأ منها كما هو. {يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً} يجرونها حيث شاءوا إجراء سهلاً. {يُوفُونَ بالنذر} استئناف ببيان ما رزقوه لأجله كأنه سئل عنه فأجيب بذلك، وهو أبلغ في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفى بما أوَجَبه على نفسه لله تعالى كان أوفى بما أوجبه الله تعالى عليه. {ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ} شدائده. {مُسْتَطِيراً} فاشياً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر، وهو أبلغ من طار، وفيه إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي. {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ} حب الله تعالى أو الطعام أو الإِطعام. {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} يعني أسراء الكفار فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول «أحسن إليه» أو الأسير المؤمن ويدخل فيه المملوك والمسجون، وفي الحديث «غريمك أسير فأحسن إلى أسيرك».
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)} {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} على إرادة القول بلسان الحال أو المقال إزاحة لتوهم المن وتوقع المكافأة المنقصة للأجر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله. {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً} أي شكراً. {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا} فلذلك نحسن إليكم أو لا نطلب المكافأة منكم. {يَوْماً} عذاب يوم. {عَبُوساً} تعبس فيه الوجوه أو يشبه الأسد العبوس في ضراوته. {قَمْطَرِيراً} شديد العبوس كالذي يجمع ما بين عينيه من اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قرطيها أو مشتق من القطر والميم مزيدة. {فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} بسبب خوفهم وتحفظهم عنه. {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً} بدل عبوس الفجار وخزنهم. {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرمات وإيثار الأموال. {جَنَّةُ} بستاناً يأكلون منه. {وَحَرِيراً} يلبسونه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما وفضة جارية لهما صوم ثلاث إن برئا، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم مسكين فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا ووضعوا الطعام وقف عليهم يتيم فآثروه، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك، فنزل جبريل عليه السلام بهذه السورة وقال خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك. {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك} حال من هم في {جزاهم} أو صفة ل {جَنَّةُ}. {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} يحتملهما وأن يكون حالاً من المستكن في {متئكين}، والمعنى أنه يمر عليهم فيها هواء معتدل لا حار محم ولا بارد مؤذ، وقيل الزمهرير القمر في لغة طيء قال راجزهم: وَلَيْلَةٌ ظَلاَمُهَا قَدِ اعْتَكَر *** قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ والمعنى أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس وقمر. {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها} حال أو صفة أخرى معطوفة على ما قبلها، أو عطف على {جَنَّةُ} أي وجنة أخرى دانية على أنهم وعدوا جنتين كقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} وقرئت بالرفع على أنها خبر {ظلالها} والجملة حال أو صفة. {وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} معطوف على ما قبله أو حال من دانية، وتذليل القطوف ان تجعل سهلة التناول لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا. {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ} وأباريق بلا عروة. {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ}. {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} أي تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة ولينها، وقد نون {قَوارِيرَ} من نون «سلاسلاً» وابن كثير الأولى لأنها رأس الآية، وقرئ {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} على هي {قَوارِيرَ}. {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي قدروها في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنوه، أو قدروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها، أو قدر الطائفون بها المدلول عليهم بقوله يطاف شرابها على قدر اشتهائهم، وقرئ {قَدَّرُوهَا} أي جعلوا قادرين لها كما شاءوا من قدر منقولاً من قدرت الشيء. {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} ما يشبه الزنجبيل في الطعم وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به {عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل، ولذلك حكم بزيادة الباء والمراد به أن ينفي عنها لذع الزنجيل ويصفها بنقيضه، وقيل أصله سل سبيلا فسميت به كتأبط شراً لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)} {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} دائمون. {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} من صفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم وانعكاس شعاع بعضهم إلى بعض. {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر لأنه عام معناه أن بصرك أينما وقع. {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} واسعاً، وفي الحديث " أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه " هذا وللعارف أكبر من ذلك وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت، فيستضيء بأنوار قدس الجبروت. {عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} يعلوهم ثياب الحرير الخضر ما رق منها وما غلظ، ونصبه على الحال من هم في عليهم أو {حَسِبْتَهُمْ}، أو {مَلَكًا} على تقدير مضاف أي وأهل ملك كبير عاليهم، وقرأ نافع {عاليهم} وحمزة بالرفع على أنه خبر {ثِيَابُ}. وقرأ ابن كثير وأبو بكر «خُضْرٍ» بالجر حملاً على {سُندُسٍ} بالمعنى فإنه اسم جنس، {وَإِسْتَبْرَقٍ} بالرفع عطفاً على {ثِيَابُ}، وقرأهما حفص وحمزة والكسائي بالرفع، وقرئ «وَإِسْتَبْرَقٍ» بوصل الهمزة والفتح على أنه استفعل من البريق جعل علماً لهذا النوع من الثياب. {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} عطف على {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} ولا يخالفه قوله {أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} لإمكان الجمع والمعاقبة والتبعيض، فإن حلي أهل الجنة تختلف باختلاف أعمالهم، فلعله تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حلياً وأنواراً تتفاوت الذهب والفضة، أو حال من الضمير في {عاليهم} بإضمار قد، وعلى هذا يجوز أن يكون هذا للخدم وذلك للمخدومين. {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} يريد به نوعاً آخر يفوق على النوعين المتقدمين ولذلك أسند سقيه إلى الله عز وجل، ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله ملتذاً بلقائه باقياً ببقائه، وهي منتهى درجات الصديقين ولذلك ختم بها ثواب الأبرار. {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} على إضمار القول والإِشارة إلى ما عد من ثوابهم. {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} مجازى عليه غير مضيع. {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً} مفرقاً منجماً لحكمةٍ اقتضته، وتكرير الضمير مع أن مزيد لاختصاص التنزيل به. {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} بتأخير نصرك على كفار مكة وغيرهم. {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً} أي كل واحدُ من مرتكب الإِثم الداعي لك إليه ومن الغالي في الكفر الداعي لك إليه، وأو للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به والقسم باعتبار ما يدعونه إليه، فإن ترتب النهي على الوصفين مشعر أنه لهما وذلك يستدعي أن تكون المطاوعة في الإِثم والكفر. فإن مطاوعتهما فيما ليس بإثم ولا كفر غير محظور. {واذكر اسم رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ودَاوم على ذكره أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل يتناول وقتيهما.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)} {وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ} وبعض الليل فصل له تعالى، ولعل المراد به صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص. {وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} وتهجد له طائفة طويلة من الليل. {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ} أمامهم أو خلف ظهورهم. {يَوْماً ثَقِيلاً} شديداً مستعار من الثقل الباهظ للحامل، وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه.
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)} {نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} وإذا شئنا أهلكناهم و{بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً} في الخلقة، وشدة الأسر يعني النشأة الثانية ولذلك جيء ب {إِذَا} أو بدلنا غيرهم ممن يطيع {وَإِذَا} لتحقق القدرة وقوة الداعية. {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} الإِشارة إلى السورة أو الآيات القريبة، {فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} تقرب إليه بالطاعة. {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} وما تشاءون ذلك إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يَشَاءونَ» بالياء. {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بما يستأهل كل أحد. {حَكِيماً} لا يشاء إلا ما تقتضيه حكمته. {يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ} بالهداية والتوفيق للطاعة. {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} نصب {الظالمين} بفعل يفسره {أَعَدَّ لَهُمْ} مثل أوعد وكافأ ليطابق الجملة المعطوف عليها، وقرئ بالرفع على الابتداء. عن النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً ".
مكية وآيها خمسون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)} {والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً فالملقيات ذِكْراً} إقسام بطوائف من الملائكة أرسلهن الله تعالى بأوامره متتابعة. فعصفن عصف الرياح في امتثال أمره، ونشرن الشرائع في الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم، ففرقن بين الحق والباطل، فألقين إلى الأنبياء ذكراً عذراً للمحقين ونذراً للمبطلين، أو بآيات القرآن المرسلة بكل عرف إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فعصفن سائر الكتب والأديان بالنسخ ونشرن آثار الهدى والحكم في الشرق والغرب، وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق فيما بين العالمين. أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن ما سوى الحق ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء، ففرقن بين الحق بذاته والباطل في نفسه فيرون كل شيء هالكاً إلا وجهه، فألقين ذكراً بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلا ذكر الله تعالى. أو برياح عذاب أرسلن فعصفن، ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو، ففرقن فألقين ذكراً أي تسببن له، فإن العاقل إذا شاهد هبوبها وآثارها ذكر الله تعالى وتذكر كمال قدرته، وعرفاً إما نقيض النكر وانتصابه على العلة أي أرسلن للإِحسان والمعروف، أو بمعنى المتتابعة من عرف الفرس وانتصابه على الحال. {عُذْراً أَوْ نُذْراً} مصدران لعذر إذا محا الإِساءة وأنذر إذا خوف، أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإِنذار، أو بمعنى العاذر والمنذر، ونصبهما على الأولين بالعلية أي {عُذْراً} للمحقين {أَوْ نُذْراً} للمبطلين، أو البدل من {ذِكْراً} على أن المراد به الوحي أو ما يعم التوحيد والشرك والإِيمان والكفر وعلى الثالث بالحالية، وقرأهما أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص بالتخفيف. {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع} جواب القسم ومعناه أن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة. {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} محقت أو أذهب نورها. {وَإِذَا السماء فُرِجَتْ} صدعت. {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} كالحب ينسف بالمنسف. {وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ} عين لها وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على الأمم بحصوله، فإنه لا يتعين لهم قبله، أو بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره، وقرأ أبو عمرو «وقتت» على الأصل. {لأَيّ يَوْمٍ أُجّلَتْ} أي يقال لأي يوم أخرت، وضرب الأجل للجمع وهو تعظيم لليوم وتعجيب من هوله، ويجوز أن يكون ثاني مفعولي {أُقّتَتْ} على أنه بمعنى أعلمت. {لِيَوْمِ الفصل} بيان ليوم التأجيل. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} أي بذلك، و{وَيْلٌ} في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلك للمدعو عليه، و{يَوْمَئِذٍ} ظرفه أو صفته. {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} كقوم نوح وعاد وثمود، وقرئ «نُهْلِكِ» من هلكه بمعنى أهلكه.
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)} {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} أي {ثُمَّ} نحن {نُتْبِعُهُمُ} نظراءهم ككفار مكة، وقرئ بالجزم عطفاً على {نُهْلِكِ} فيكون {الآخرين} المتأخرين من المهلكين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام. {كذلك} مثل ذلك الفعل. {نَفْعَلُ بالمجرمين} بكل من أجرم. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} بآيات الله وأنبيائه فليس تكريراً، وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد، لأن ال {وَيْلٌ} الأول لعذاب الآخرة وهذا للإِهلاك في الدنيا، مع أن التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب. {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ} نطفة مذرة ذليلة. {فجعلناه فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} هو الرحم. {إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} إلى مقدار معلوم من الوقت قدره الله تعالى للولادة. {فَقَدَرْنَا} على ذلك، أو فقدرناه ويدل عليه قراءة نافع والكسائي بالتشديد. {فَنِعْمَ القادرون} نحن. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} بقدرتنا على ذلك أو على الإِعادة. {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً} كافتة اسم لما يكفت أي يضم ويجمع كالضمام والجماع اسم لما يضم ويجمع، أو مصدر نعت به أو جمع كافت كصائم وصيام، أو كفت وهو الوعاء أجرى على الأرض باعتبار أقطارها. {أَحْيَاءً وأمواتا} منتصبان على المفعولية وتنكيرهما للتفخيم، أو لأن أحياء الإِنس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات، أو الحالية من مفعوله المحذوف للعلم به وهو الإِنس، أو بنجعل على المفعولية و{كِفَاتاً} حال أو الحالية فيكون المعنى بالأحياء ما ينبت وبالأموات ما لا ينبت. {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات} جبالاً ثوابت طوالاً والتنكير للتفخيم، أو الإِشعار بأن فيها ما لم يعرف ولم ير {وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً} بخلق الأنهار والمنابع فيها.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} بأمثال هذه النعم. {انطلقوا} أي يقال لهم انطلقوا. {إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} من العذاب. {انطلقوا} خصوصاً وعن يعقوب {انطلقوا} على الإِخبار عن امتثالهم للأمر اضطراراً. {إلى ظِلّ} يعني ظل دخان جهنم كقوله تعالى: {وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} {ذِى ثلاث شُعَبٍ} يتشعب لعظمه كما ترى الدخان العظيم يتفرق. تفرق الذوائب، وخصوصية الثلاث إما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم، أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الواهمة الحالية في الدماغ والغضبية التي في يمين القلب والشهوية التي في يساره، ولذلك قيل شعبة تقف فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره. {لاَّ ظَلِيلٍ} تهكم بهم ورد لما أوهم لفظ ال {ظِلّ}. {وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب} وغير مغن عنهم من حر اللهب شيئاً. {إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر} أي كل شرارة {كالقصر} في عظمها، ويؤيده أنه قرئ «بشرار»، وقيل هو جمع قصرة وهي الشجرة الغليظة، وقرئ«كالقصر» بمعنى القصور كرهن ورهن و«كالقصر» جمع قصرة كحاجة وحوج، و«كالصر» جمع قصرة وهي أصل العنق والهاء للشعب. {كَأَنَّهُ جَمَالاتٌ} جمع جمال أو جمالة جمع جمل. {صُفْرٌ} فإن الشرار بما فيه من النارية يكون أصفر، وقيل سود لأن سواد الإِبل يضرب إلى الصفرة، والأول تشبيه في العظم وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط وسرعة الحركة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص {جمالة} وعن يعقوب {جُمَالاَتٌ} بالضم جمع جُمالة، وقد قرئ بها وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة شبهه بها في امتداده والتفافه. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} أي بما يستحق فإن النطق بما لا ينفع كلا نطق، أو بشيء من فرط الدهشة والحيرة وهذا في بعض المواقف، وقرئ بنصب ال «يَوْمَ» أي هذا الذي ذكر واقع يومئذ.
{وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)} {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} عطف {فَيَعْتَذِرُونَ} على {يُؤْذَنَ} ليدل على نفي الإِذن والاعتذار عقيبه مطلقاً، ولو جعله جواباً لدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن فأوهم ذلك أن لهم عذراً لكن لا يؤذن لهم فيه. {هذا يَوْمُ الفصل} بين المحق والمبطل. {جمعناكم والأولين} تقرير وبيان للفصل. {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} إذ لا حيلة لهم في التخلص من العذاب. {إِنَّ المتقين} عن الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين. {فِى ظلال وَعُيُونٍ}. {وفواكه مِمَّا يَشْتَهُونَ} مستقرون في أنواع الترفه. {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي مقولاً لهم ذلك. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} في العقيدة. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} يمحض لهم العذاب المخلد ولخصومهم الثواب المؤبد. {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} حال من المكذبين أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك، تذكيراً لهم بحالهم في الدنيا وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} حيث عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل. {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا} أطيعوا وأخضعوا أو صلوا أو اركعوا في الصلاة. إذ روي: أنه نزل حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيفاً بالصلاة فقالوا: لا نجبي أي لا نركع فإنها مسبة. وقيل هو يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. {لاَ يَرْكَعُونَ} لا يمتثلون واستدل به على أن الأمر للوجوب وأن الكفار مخاطبون بالفروع. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} بعد القرآن. {يُؤْمِنُونَ} إذا لم يؤمنوا به وهو معجز في ذاته مشتمل على الحجج الواضحة والمعاني الشريفة. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والمرسلات كتب له أنه ليس من المشركين».
مكية، وآيها إحدى وأربعون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)} {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} أصله عما فحذف الألف لما مر، ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه كأنه لفخامته خفي جنسه فيسأل عنه، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، أو يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين عنه استهزاء كقولهم: يتداعونهم ويتراءونهم أي يدعونهم ويرونهم، أو للناس. {عَنِ النبإ العظيم} بيان لشأن المفخم أو صلة {يَتَسَاءلُونَ} و{عَمَّ} متعلق بمضمر مفسر به، ويدل عليه قراءة يعقوب: «عمه». {الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} بجزم النفي والشك فيه، أو بالإقرار والإِنكار. {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ردع عن التساؤل ووعيد عليه. {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} تكرير للمبالغة و{ثُمَّ} للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد، وقيل الأول عند النزع والثاني في القيامة، أو الأول للبعث والثاني للجزاء. وعن ابن عامر «ستعلمون» بالتاء على تقدير قل لهم ستعلمون. {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً} تذكير ببعض ما عاينوا من عجائب صنعه الدالة على كمال قدرته ليستدلوا بذلك على صحة البعث كما مر تقريره مراراً، وقرئ «مهداً» أي أنها لهم كالمهد للصبي مصدر سمي به ما يمهد لينوم عليه. {وخلقناكم أزواجا} ذكراً وأنثى. {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} قطعاً عن الإِحساس والحركة استراحة للقوى الحيوانية وإزاحة لكلاهما، أو موتاً لأنه أحد التوفيين ومنه المسبوت للميت، وأصله القطع أيضاً. {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً} غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء. {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به، أو حياة تنبعثون فيها عن نومكم. {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} سبع سموات أقوياء محكمات لا يؤثر فيها مرور الدهور. {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} متلألئاً وقاداً من وهجت النار إذا أضاءت، أو بالغاً في الحرارة من الوهج وهو الحر والمراد الشمس.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمر كقولك: احصد الزرع إذا حان له أن يحصد، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض، أو من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، أو الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشئ السحاب وتدرأ خلافه، ويؤيده أنه قرئ «بالمعصرات». {مَاءً ثَجَّاجاً} منصباً بكثرة يقال ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث " أفضل الحج العج والثج " أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى، وقرئ «ثَجَّاجاً» ومثاجج الماء مصابه. {لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} ما يقتات به وما يعتلف من التبن والحشيش. {وجنات أَلْفَافاً} ملتفة بعضها ببعض جمع لف كجذع. قال: جَنَّة لفَّ وَعَيْشٌ مُغْدق *** وَنَدَامى كُلُّهُمْ بِيضٌ زهر أو لفيف كشريف أو لف جمع لفاء كخضراء وخضر وأخضار أو متلفة بحذف الزوائد. {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ} في علم الله تعالى أو في حكمه. {ميقاتا} حداً تؤقت به الدنيا وتنتهي عنده، أو حداً للخلائق ينتهون إليه. {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} بدل أو بيان ليوم الفصل. {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} جماعات من القبور إلى المحشر. روي " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال: يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون يسبحون على وجوههم، وبعضهم عمي وبعضهم صم بكم، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم فيسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلوبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم " ثم فسرهم بالقتات وأهل السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم، والعلماء الذين خالف قولهم عملهم، والمؤذين جيرانهم والساعين بالناس إلى السلطان، والتابعين للشهوات المانعين حق الله تعالى، والمتكبرين الخيلاء. {وَفُتِحَتِ السماء} وشققت وقرأ الكوفيون بالتخفيف. {فَكَانَتْ أبوابا} فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو فصارت ذات أبواب. {وَسُيّرَتِ الجبال} أي في الهواء كالهباء. {فَكَانَتْ سَرَاباً} مثل سراب إذ ترى على صورة الجبال ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها وانبثاثها. {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار، أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها، كالمضمار فإنه الموضع الذي تضمر فيه الخيل، أو مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منها واحد كالمطعان، وقرئ {أن} بالفتح على التعليل لقيام الساعة. {للطاغين مَئَاباً} مرجعاً ومأوى. {لابثين فِيهَا} وقرأ حمزة وروح «لبثين» وهو أبلغ. {أَحْقَاباً} دهوراً متتابعة، وليس فيها ما يدل على خروجهم منها إذ لو صح أن الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة، فليس فيه ما يتقضى تناهي تلك الأحقاب لجواز أن يكون المراد أحقاباً مترادفة كلما مضى حقب تبعه آخر، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطق الدال على خلود الكفار، ولو جعل قوله: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} حالاً من المستكن في {لابثين} أو نصب {أَحْقَاباً} ب {لاَ يَذُوقُونَ} احتمل أن يلبثوا فيها أحقاباً غير ذائقين إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون جنساً آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق، وحقب العام إذا قل مطره وخيره فيكون حالاً بمعنى لابثين فيها حقبين، وقوله {لاَ يَذُوقُونَ} تفسير له والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار أو النوم، وبالغساق ما يغسق أي يسيل من صديدهم، وقيل الزمهرير وهو مستثنى من البرد إلا أنه أخر ليتوافق رؤوس الآي، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد.
{جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)} {جَزَاءً وفاقا} أي جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقاً لها أو وافقها وفاقاً، وقرئ «وفاقا» فعال من وفقه كذا. {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} بيان لما وافقه هذا الجزاء. {وَكَذَّبُواْ بئاياتنا كِذَّاباً} تكذيباً وفعال بمعنى تفعيل مطرد شائع في كلام الفصحاء. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى الكذب كقوله: فَصَدَقْتَهَا وَكَذَبْتَهَا *** وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَّابُهْ وإنما أقيم مقام التكذيب للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم، أو المكاذبة فإنهم كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون كاذبين عندهم فكان بينهم مكاذبة، أو كانوا مبالغين في الكذب مبالغة فيه، وعلى المعنيين يجوز أن يكون حالاً بمعنى كاذبين أو مكاذبين، ويؤيده أنه قرئ «كَذَّاباً» وهو جمع كاذب، ويجوز أن يكون للمبالغة فيكون صفة للمصدر أي تكذيباً مفرطاً كذبه. {وَكُلَّ شئ أحصيناه} وقرئ بالرفع على الابتداء. {كتابا} مصدر لأحصيناه فإن الأحصاء والكتبة يتشاركان في معنى الضبط أو لفعله المقدر أو حال بمعنى مكتوباً في اللوح، أو صحف الحفظة والجملة اعتراض وقوله: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ومجيئه على طريقة الالتفات للمبالغة. وفي الحديث " هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار " {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} فوزاً أو موضع فوز. {حَدَائِقَ وأعنابا} بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من {مَفَازاً} بدل الاشتمال والبعض. {وَكَوَاعِبَ} نساء فلكت ثديهن {أَتْرَاباً} لدات {وَكَأْساً دِهَاقاً} ملآنا وأدهق الحوض ملآه. {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذباً} وقرأ الكسائي بالتخفيف أي كذباً أو مكاذبةٍ، إذ لا يكذب بعضهم بعضاً. {جَزَاءً مّن رَّبّكَ}. بمقتضى وعده. {عَطَاءً} تفضلاً منه إذ لا يجب عليه شيء، وهو بدل من {جَزَاء}، وقيل منتصف به نصب المفعول به. {حِسَاباً} كافياً من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي، أو على حسب أعمالهم وقرئ «حِسَاباً» أي محسباً كالدراك بمعنى المدرك. {رَبِّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بدل من ربك وقد رفعه الحجازيان وأبو عمرو على الابتداء. {الرحمن} بالجر صفة له وكذا في قراءة ابن عامر وعاصم ويعقوب بالرفع في قراءة أبي عمرو، وفي قراءة حمزة والكسائي بجر الأول ورفع الثاني على أنه خبر محذوف، أو مبتدأ خبره: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} والواو لأهل السموات والأرض أي لا يملكون خطابه، والاعتراض عليه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له على الاطلاق فلا يستحقون عليه اعتراضاً وذلك لا ينافي الشفاعة بإذنه.
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)} {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} تقرير وتوكيد لقوله {لاَّ يَمْلِكُونَ}، فإن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما يكون صواباً كالشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه، فكيف يملكه غيرهم و{يَوْمٍ} ظرف ل {لاَّ يَمْلِكُونَ}، أو ل {يَتَكَلَّمُونَ} و{الروح} ملك موكل على الأرواح أو جنسها، أو جبريل عليه السلام أو خلق أعظم من الملائكة. {ذَلِكَ اليوم الحق} الكائن لا محالة. {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ} إلى ثوابه. {مَئَاباً} بالإيمان والطاعة. {إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} يعني عذاب الآخرة، وقربه لتحققه فإن كل ما هو آت قريب ولأن مبدأه الموت. {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} يرى ما قدمه من خير أو شر، و{المرء} عام. وقيل هو الكافر لقوله: {إِنَّا أنذرناكم} فيكون الكافر ظاهراً وضع موضع الضمير لزيادة الذم، و{مَا} موصولة منصوبة بينظر أو استفهامية منصوبة ب {قَدَّمْتُ}، أي ينظر أي شيء قدمت يداه. {وَيَقُولُ الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا} في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو في هذا اليوم فلم أبعث، وقيل يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثم ترد تراباً فيود الكافر حالها. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة عم سقاه الله برد الشراب يوم القيامة».
مكية وآيها خمس أو ست وأربعون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)} {والنازعات غَرْقاً والناشطات نَشْطاً والسابحات سَبْحاً فالسابقات سَبْقاً} {فالمدبرات أَمْراً}. هذه صفات ملائكة الموت فإنهم ينزعون أرواح الكفار من أبدانهم غرقاً أي إغراقاً في النزع، فإنهم ينزعونها من أقاصي الأبدان، أو نفوساً غرقت في الأجساد وينشطون أي يخرجون أرواح المؤمنين برفق من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، ويسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج الشيء من أعماق البحر، فيسبقون بأرواح الكفار إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيئوها لإدراك ما أعد لها من الآلام واللذات، أو الأوليان لهم والباقيات لطوائف من الملائكة يسبحون في مضيها أي يسرعون فيه فيسبقون إلى ما أمروا به فيدبرون أمره، أو صفات النجوم فإنها تنزع من المشرق إلى المغرب غرقاً في النزع بأن تقطع الفلك حتى تنحط في أقصى الغرب، وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من بلد إلى بلد، ويسبحن في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فيدبر أمراً نيط بها، كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات، ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية وحركاتها من برج إلى برج ملائمة سمى الأولى نزعاً والثانية نشطاً، أو صفات النفوس الفاضلة حال المفارقة فإنها تنزع عن الأبدان غرقاً أي نزعاً شديداً من إغراق النازع في القوس، وتنشط إلى عالم الملكوت وتسبح فيها فتسبق إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات، أو حال سلوكها فإنها تنزع عن الشهوات فتنشط إلى عالم القدس، فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات، أو صفات أنفس الغزاة، أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام وينشطون بالسهم للرمي ويسبحون في البر والبحر فيسبقون إلى حرب العدو فيدبرون أمرها، أو صفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر، وتسبح في حربها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر. أقسم الله تعالى بها على قيام الساعة وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه. {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} وهو منصوب به والمراد ب {الراجفة} الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال} أو الواقعة التي ترجف الأجرام عندها وهي النفخة الأولى. {تَتْبَعُهَا الرادفة} التابعة وهي السماء والكواكب تنشق وتنشر، أو النفخة الثانية. والجملة في موقع الحال. {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} شديدة الاضطراب من الوجيف وهي صفة القلوب والخبر: {أبصارها خاشعة} أي أبصار أصحابها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إلى القلوب. {يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة} في الحالة الأولى يعنون الحياة بعد الموت من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقه التي جاء فيها، فحفرها أي أثر فيها بمشيه على النسبة كقوله تعالى: {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أو تشبيه القائل بالفاعل وقرئ «في الحفرة» بمعنى المحفورة يقال حفرت أسنانه فحفرت حفراً وهي حفرة. {أَئِذَا كُنَّا} وقرأ نافع وابن عامر والكسائي {إِذَا كُنَّا} على الخبر. {عظاما نَاخِرَةً} بالية وقرأ الحجازيان والشامي وحفص وروح «نَّخِرَةً» وهي أبلغ.
{قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)} {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة} ذات خسران أو خاسر أصحابها، والمعنى أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها وهو استهزاء منهم. {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة} متعلق بمحذوف أي لا يستصعبوها فما هي إلا صيحة واحدة يعني النفخة الثانية. {فَإِذَا هُم بالساهرة} فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتاً في بطنها، والساهرة والأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة للتي يجري ماؤها وفي ضدها نائمة، أو لأن سالكها يسهر خوفاً وقيل اسم لجهنم. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} أليس قد أتاك حديثه فيسليك على تكذيب قومك وتهددهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم. {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى} قد مر بيانه في سورة «طه». {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} على إرادة القول، وقرئ «أن أذهب» لما في النداء من معنى القول. {فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} هل لك ميل إلى أن تتطهر من الكفر والطغيان، وقرأ الحجازيان ويعقوب«تزكى» بالتشديد. {وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ} وأرشدك إلى معرفته. {فتخشى} بأداء الواجبات وترك المحرمات، إذ الخشية إنما تكون بعد المعرفة وهذا كالتفصيل لقوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً} {فَأَرَاهُ الآية الكبرى} أي فذهب وبلغ فأراه المعجزة الكبرى وهي قلب العصا حية فإنه كان المقدم والأصل، أو مجموع معجزاته فإنها باعتبار دلالتها كالآية الواحدة. {فَكَذَّبَ وعصى} فكذب موسى وعصى الله عز وجل بعد ظهور الآية وتحقق الأمر. {ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الطاعة. {يسعى} ساعياً في إبطال أمره أو أدبر بعدما رأى الثعبان مرعوباً مسرعاً في مشيه. {فَحَشَرَ} فجمع السحرة أو جنوده. {فنادى} في المجمع بنفسه أو بمناد. {فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} أعلى كل من يلي أمركم. {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} أخذا منكلاً لمن رآه، أو سمعه في الآخرة بالإِحراق وفي الدنيا بالإِغراق، أو على كلمته {الآخرة} وهي هذه وكلمته الأولى وهو قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} أو للتنكيل فيهما، أو لهما، ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً مقدراً بفعله. {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى} لمن كان من شأنه الخشية.
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} {أأنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أصعب خلقاً. {أَمِ السماء} ثم بين كيف خلقها فقال: {بناها} ثم بين البناء فقال: {رَفَعَ سَمْكَهَا} أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض أو ثخنها لذاهب في العلو رفيعاً. {فَسَوَّاهَا} فعدلها أو فجعلها مستوية، أو فتممها بما يتم به كمالها من الكواكب والتداوير وغيرها من قولهم: سوى فلان أمره إذا أصلحه. {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أظلمه منقول من غطش الليل إذا أظلم، وإنما أضافه إليها لأنه يحدث بحركتها. {وَأَخْرَجَ ضحاها} وأبرز ضوء شمسها. كقوله تعالى: {والشمس وضحاها} يريد النهار. {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} بسطها ومهدها للسكنى. {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا} بتفجير العيون. {ومرعاها} ورعيها وهو في الأصل لموضع الرعي، وتجريد الجملة عن العاطف لأنها حال بإضمار قد أو بيان للدحو. {والجبال أرساها} أثبتها وقرئ «والأرض والجبال» بالرفع على الابتداء، وهو مرجوح لأن العطف على فعلية. {متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم} تمتيعاً لكم ولمواشيكم. {فَإِذَا جَاءتِ الطامة} الداهية التي تطم أي تعلو على سائر الدواهي. {الكبرى} التي هي أكبر الطامات وهي القيامة، أو النفخة الثانية أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى} بأن يراه مدوناً في صحيفته وكان قد نسيه من فرط الغفلة أو طول المدة، وهو بدل من {فَإِذَا جَاءتِ} و{مَا} موصولة أو مصدرية {وَبُرّزَتِ الجحيم} وأظهرت. {لِمَن يرى} لكل راء بحيث لا تخفى على أحد، وقرئ {وَبُرّزَتِ} و«لمن رأى» و«لمن ترى» على أن فيه ضمير الجحيم كقوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أو أنه خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم أي لمن تراه من الكفار، وجواب {فَإِذَا جَاءتِ} محذوف دل عليه {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} أو ما بعده من التفضيل. {فَأَمَّا مَن طغى} حتى كفر. {وَءاثَرَ الحياة الدنيا} فانهمك فيها ولم يستعد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس. {فَإِنَّ الجحيم هِىَ المأوى} هي مأواه واللام فيه سادة مسد الإضافة للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي، وهي فصل أو مبتدأ. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} مقامه بين يدي ربه لعلمه بالمبدأ والمعاد. {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} لعلمه بأنه مرد.
{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} {فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى} ليس له سواها مأوى. {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} متى إرسَاؤهَا أي إقامتها وإثباتها، أو منتهاها ومستقرها من مرسى السفينة وهو حيث تنتهي إليه وتستقر فيه. {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} في أي شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم أي ما أنت من ذكرها لهم، وتبيين وقتها في شيء فإن ذكرها لا يزيدهم إلا غياً. ووقتها مما استأثر الله تعالى بعلمه. وقيل {فِيمَ} إنكار لسؤالهم و{أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} مستأنف، ومعناه أنت ذكر من ذكرها أي علامة من أشراطها، فإن إرساله خاتماً للأنبياء أمارة من أماراتها، وقيل إنه متصل بسؤالهم والجواب. {إلى رَبّكَ منتهاها} أي منتهى علمها. {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} إنما بعثت لإنذار من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى لأنه المنتفع به، وعن أبي عمرو ومنذر بالتنوين والإِعمال على الأصل لأنه بمعنى الحال. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ} في الدنيا أو في القبور. {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} أي عشية يوم أو ضحاه كقوله {إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ} ولذلك أضاف الضحى إلى ال {عَشِيَّةً} لأنهما من يوم واحد. عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النازعات كان ممن حبسه الله في القيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة المكتوبة».
مكية وآيها ثنتان وأربعون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9)} {عَبَسَ وتولى}. {أَن جَاءهُ الأعمى} روي: " أن ابن أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإِسلام، فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، واستخلفه على المدينة مرتين " وقرئ «عَبَّسَ» بالتشديد للمبالغة و{أَن جَاءهُ} علة ل {تولى}، أو {عَبَسَ} على اختلاف المذهبين، وقرئ «آأن» بهمزتين وبألف بينهما بمعنى ألئن جاءه الأعمى فعل ذلك، وذكر الأعمى للإِشعار بعذره في الإِقدام على قطع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقوم والدلالة على أنه أحق بالرأفة والرفق، أو لزيادة الإِنكار كأنه قال: تولى لكونه أعمى كالالتفات في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} أي: وأي شيء يجعلك دارياً بحاله لعله يتطهر من الآثام بما يتلقف منك. وفيه إيماء بأن إعراضه كان لتزكية غيره. {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} أو يتعظ فتنفعه موعظتك، وقيل الضمير في {لَعَلَّهُ} للكافر أي أنك طمعت في تزكيه بالإِسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره، فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن، وقرأ عاصم فتنفعه بالنصب جواباً للعل. {أَمَّا مَنِ استغنى فَأَنتَ لَهُ تصدى} تتعرض له بالإِقبال عليه وأصله تتصدى، وقرأ ابن كثير ونافع «تصدى» بالإِدغام وقرئ. «تصدى» أي تعرض وتدعى إلى التصدي. {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى} وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يسعى} يسرع طالباً للخير. {وَهُوَ يخشى} الله أو أذية الكفار في إتيانك، أو كبوة الطريق لأنه أعمى لا قائد له.
{فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)} {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} تتشاغل، يقال لها عنه والتهى و{تلهى}، ولعل ذكر التصدق والتلهي للإِشعار بأن العتاب على اهتمام قلبه بالغني وتلهيه عن الفقير، ومثله لا ينبغي له ذلك. {كَلاَّ} ردع عن المعاتب عليه أو عن معاودة مثله. {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}. {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} حفظه أو اتعظ به والضميران للقرآن، أو العتاب المذكور وتأنيث الأول لتأنيث خبره. {فَى صُحُفٍ} مثبتة فيها صفة لتذكرة، أو خبر ثان أو خبر لمحذوف. {مُّكَرَّمَةٍ} عند الله. {مَّرْفُوعَةٍ} القدر. {مُّطَهَّرَةٍ} منزهة عن أيدي الشياطين: {بِأَيْدِى سَفَرَةٍ} كتبة من الملائكة أو الأنبياء ينتسخون الكتب من اللوح أو الوحي، أو سفراء يسفرون بالوحي بين الله تعالى ورسله، أو الأمة جمع سافر من السفر، أو السفارة والتركيب للكشف يقال سفرت المرأة إذا كشفت وجهها. {كِرَامٍ} أعزاء على الله أو متعطفين على المؤمنين يكلمونهم ويستغفرون لهم. {بَرَرَةٍ} أتقياء. {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} دعاه عليه بأشنع الدعوات وتعجب من إفراطه في الكفران، وهو مع قصره يدل على سخط عظيم وذم بليغ. {مِنْ أَىّ شَئ خَلَقَهُ} بيان لما أنعم عليه خصوصاً من مبدأ حدوثه، والاستفهام للتحقير ولذلك أجاب عنه بقوله: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} فهيأه لما يصلح له من الأعضاء والأشكال، أو {فَقَدَّرَهُ} أطواراً إلى أن تم خلقته. {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} ثم سهل مخرجه من بطن أمه بأن فتح فوهة الرحم وألهمه أن ينتكس، أو ذلل له سبيل الخير والشر ونصب السبيل بفعل يفسره الظاهر للمبالغة في التيسير، وتعريفه باللام دون الإِضافة للإِشعار بأنه سبيل عام، وفيه على المعنى الأخير إيماء بأن الدنيا طريق والمقصد غيرها ولذلك عقبه بقوله: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} وعد الإِماتة والإِقبار في النعم لأن الإِماتة وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية واللذات الخالصة والأمر بالقبر تكرمة وصيانة عن السباع، وفي {إِذَا شَاء} إشعار بأن وقت النشور غير متعين في نفسه، وإنما هو موكول إلى مشيئته تعالى. {كَلاَّ} ردع للإِنسان بما هو عليه. {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} لم يقض بعد من لدن آدم إلى هذه الغاية ما أمره الله بأمره، إذ لا يخلو أحد من تقصير ما. {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} إتباع للنعم الذاتية بالنعم الخارجية. {أَنَاْ صَبَبْنَا الماء صَبّاً} استئناف مبين لكيفية إحداث الطعام، وقرأ الكوفيون بالفتح على البدل منه بدل الاشتمال.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} أي بالنبات أو بالكراب، وأسند الشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب. {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} كالحنطة والشعير. {وَعِنَباً وَقَضْباً} يعني الرطبة سميت بمصدر قضبه إذا قطعه لأنها تقضب مرة بعد أخرى. {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً} عظاماً وصف به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها، أو لأنها ذات أشجار غلاظ مستعار من وصف الرقاب. {وفاكهة وَأَبّاً} ومرعى من أب إذا أم لأنه يؤم وينتجع، أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيء للرعي، أو فاكهة يابسة تؤوب للشتاء. {متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم} فإن الأنواع المذكورة بعضها طعام وبعضها علف. {فَإِذَا جَاءتِ الصاخة} أي النفخة وصفت بها مجازاً لأن الناس يصخون لها. {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ} لاشتغاله بشأنه وعلمه بأنهم لا ينفعونه، أو للحذر من مطالبتهم بما قصر في حقهم وتأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل: يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه. {لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} يكفيه في الاهتمام به، وقرئ «يعنيه» أي يهمه. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} مضيئة من إسفار الصبح. {ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ} لما ترى من النعيم. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} غبار وكدورة. {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} يَغشاها سواد وظلمة. {أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة الفجرة} الذين جمعوا إلى الكفر الفجور، فلذلك يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر ".
مكية وآيها تسع وعشرون آية. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} {إِذَا الشمس كُوّرَتْ} لفت من كورت العمامة إذا لففتها بمعنى رفعت لأن الثوب إذا أريد رفعه لف، أو لف ضوؤها فذهب انبساطه في الآفاق وزال أثره، وألقيت عن فلكها من طعنه فكوره إذا ألقاه مجتمعاً والتركيب للإرادة والجمع وارتفاع الشمس بفعل يفسره ما بعدها أولى لأن إذا الشرطية تطلب الفعل. {وَإِذَا النجوم انكدرت} انقضت قال: أَبْصِرْ خَرْبَانَ فَضَاءَ فانكدر *** أو أظلمت من كدرت الماء فانكدر. {وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ} عن وجه الأرض أو في الجو. {وَإِذَا العشار} النوق اللواتي أتى على حملهن عشرة أشهر جمع عشراء. {عُطّلَتْ} تركت مهملة، أو السحائب عطلت عن المطر، وقرئ بالتخفيف. {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} جمعت من كل جانب أو بعثت للقصاص ثم ردت تراباً، أو أميتت من قولهم إذا أجحفت السنة بالناس حشرتهم، وقرئ بالتشديد. {وَإِذَا البحار سُجّرَتْ} أحميت أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى تعود بحراً واحداً، من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وروح بالتخفيف. {وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ} قرنت بالأبدان أو كل منها بشكلها، أو بكتابها وعملها أو نفوس المؤمنين بالحور ونفوس الكافرين بالشياطين. {وَإِذَا الموءودة} المدفونة حية وكانت العرب تئد البنات مخافة الإِملاق، أو لحوق العار بهم من أجلهم. {سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} تبكيتاً لوائدها كتبكيت النصارى بقوله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} وقريء «سألت» أي خاصمت عن نفسها وسألت، وإنما قيل {قُتِلَتْ} على الإِخبار عنها وقرئ «قُتِلَتْ» على الحكاية.
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)} {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} يعني صحف الأعمال فإنها تطوى عند الموت وتنشر وقت الحساب. وقيل {نُشِرَتْ} فرقت بين أصحابها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالتشديد للمبالغة في النشر، أو لكثرة الصحف أو شدة التطاير. {وَإِذَا السماء كُشِطَتْ} قلعت وأزيلت كما يكشط الإِهاب عن الذبيحة، وقرئ {قشطت} واعتقاب القاف والكاف كثير. {وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ} أوقدت إيقاداً شديداً وقرأ نافع وابن عامر وحفص ورويس بالتشديد. {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} قربت من المؤمنين. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} جواب {إِذَا} وإنما صح والمذكور في سياقها اثنتا عشرة خصلة ست منها في مبادئ قيام الساعة قبل فناء الدنيا وست بعده، لأن المراد زمان متسع شامل لها ولمجازاة النفوس على أعمالها، و{نَفْسٌ} في معنى العموم كقولهم تمرة خير من جرادة. {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} بالكواكب الرواجع من خنس إذا تأخر، وهي ما سوى النيرين من الكواكب السيارات ولذلك وصفها بقوله: {الجوار الكنس} أي السيارات التي تختفي تحت ضوء الشمس من كنس الوحش إذا دخل كناسه، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر. {واليل إِذَا عَسْعَسَ} أقبل ظلامه أو أدبر وهو من الأضداد يقال عسعس الليل وسعسع إذا أدبر. {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} أي أضاء غبرته عند إقبال روح ونسيم. {إِنَّهُ} أي القرآن. {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يعني جبريل فإنه قاله عن الله تعالى. {ذِى قُوَّةٍ} كقوله شديد القوى. {عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ} عند الله ذي مكانة. {مطاع} في ملائكته. {ثَمَّ أَمِينٍ} على الوحي، وثم يحتمل اتصاله بما قبله وما بعده، وقرئ {ثُمَّ} تعظيماً للأمانة وتفضيلاً لها على سائر الصفات. {وَمَا صاحبكم بِمَجْنُونٍ} كما تبهته الكفرة واستدل بذلك على فضل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام حيث عد فضائل جبريل واقتصر على نفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ضعيف إذ المقصود منه نفي قولهم {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} افترى على الله كذباً {أم به جنة} لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما.
{وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} {وَلَقَدْ رَءاهُ} ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام. {بالأفق المبين} بمطلع الشمس. {وَمَا هُوَ} وما محمد عليه الصلاة والسلام. {عَلَى الغيب} على ما يخبره من الموحى إليه وغيره من الغيوب. {بِضَنِينٍ} بمتهم من الظنة، وهي التهمة، وقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن عامر {بِضَنِينٍ} بالضاد من الضن وهو البخل أي لا يبخل بالتبليغ والتعليم، والضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، والظاء من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ} يقول بعض المسترقة للسمع، وهو نفي لقولهم إنه لكهانة وسحر. {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، كقولك لتارك الجادة: أين تذهب. {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} تذكير لمن يعلم. {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير. {وَمَا تَشَاءونَ} الاستقامة يا من يشاؤها. {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم فله الفضل والحق عليكم باستقامتكم. {رَبّ العالمين} مالك الخلق كله. قال عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حين تنتشر صحيفته».
|